درس تعليمي 12: سنن الصلاة في الفقه المالكي بين التأكيد والاستحباب وفق متن ابن عاشر
![]() |
درس تعليمي 12: سنن الصلاة في الفقه المالكي بين التأكيد والاستحباب وفق متن ابن عاشر |
أهمية السنن في الصلاة
تلعب السنن في الصلاة دورا مهما في إتمام هذه العبادة العظيمة وجعلها أكثر خشوعا وكمالا، فهي مكملة للفرائض ومزكية للنفس ومقربة للعبد من ربه، إذ أن الصلاة لا تقتصر فقط على الأركان والفرائض التي يجب إتيانها لصحتها، بل تشمل أيضا سننا تعمل على زيادة روحانية المصلي وتعمق صلته بالله وتجعل صلاته أكثر تأثيرا في سلوكه وأخلاقه. ومن هنا تأتي أهمية التمييز بين السنن والفرائض والمندوبات، فالفريضة هي ما لا تصح الصلاة بدونها ويؤدي الإخلال بها إلى بطلانها، في حين أن السنة هي ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وواظب عليه لكنه لم يأمر به على سبيل الإلزام، والمندوب هو ما رغب فيه الشارع دون أن يكون مؤكدا مثل السنن.
وتؤثر السنن في تحسين أداء الصلاة وزيادة الخشوع لدى المصلي، إذ أن أداءها يجعل الصلاة أكثر اتزانا وانضباطا ويعين المصلي على التفرغ للخشوع دون انشغال بالشكوك أو النقصان، كما أن السنن تضفي على الصلاة نوعا من التناسق والتكامل مما يجعل المصلي أكثر طمأنينة وسكينة، فهي بمثابة روح الصلاة التي تمنحها الكمال والجمال وتعزز أثرها في حياة المسلم خارج الصلاة أيضا، حيث أن المحافظة على السنن تجعل العبد أكثر التزاما وحرصا على أداء عبادته على الوجه الأكمل.
وتنقسم السنن في الصلاة إلى قسمين سنن مؤكدة وسنن خفيفة، ولكل منهما أثره في تحسين الصلاة فالسنن المؤكدة هي التي واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتركها إلا نادرا مثل قراءة السورة بعد الفاتحة والتشهد الأول والتكبيرات الانتقالية، وهذه السنن ترفع من مستوى الكمال في الصلاة وتجعلها أكثر انسجاما مع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أما السنن الخفيفة فهي التي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يواظب عليها دائما لكنها مستحبة مثل وضع السترة أمام المصلي والجهر ببعض الأذكار في مواضعها المعينة، وهذه السنن تعطي الصلاة بعدا آخر من التهذيب والاتقان وتجعلها أكثر وقارا وسببا في حصول الأجر والمثوبة لمن حافظ عليها.
لهذا فالحرص على السنن المؤكدة والخفيفة يعكس محبة العبد لربه وسعيه للاقتراب من الكمال في عبادته، فكما أن المصلي يحرص على عدم الإخلال بفرائض الصلاة ينبغي له أيضا أن يجتهد في اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في أداء السنن التي تزيد الصلاة جمالا وتضفي عليها مزيدا من الخشوع والسكينة.
السنن المؤكدة في الصلاة
السنن المؤكدة في الصلاة هي الأعمال التي واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتركها إلا نادرًا، وهي تكمل الصلاة وتزيد من فضلها وثوابها في الفقه المالكي. وعددها ثمان سنن مؤكدة، وهي: قراءة السورة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين، والقيام لها، والجهر بمحل الجهر، والإسرار في موضع السر، وتكبيرات الانتقال بين أفعال الصلاة غير تكبيرة الإحرام، والتشهد الأول والثاني، والجلوس للتشهد الأول والثاني، وقول سمع الله لمن حمده للإمام والمنفرد. وقد نظمها الإمام ابن عاشر في منظومته ليحفظها الطلاب ويتقنوها، وسنفصل القول في معضمها .
- قراءة السورة بعد الفاتحة والقيام لها: قراءة السورة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين من الصلاة تعد من السنن المؤكدة التي واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، وهي من الأمور التي تضفي على الصلاة مزيدًا من الكمال والطمأنينة في الأداء. وقد أجمع العلماء على مشروعيتها واستحبابها دون أن تكون من الفرائض بحيث لا تبطل الصلاة بتركها لكنها تفقد بذلك فضلًا كبيرًا، وتعد قراءة السورة بعد الفاتحة وسيلة لتدبر آيات القرآن والتنوع في القراءة، مما يزيد من التعلق بالذكر الحكيم ويعين على الخشوع، إذ يقرأ المصلي بعد الفاتحة ما تيسر من القرآن دون تحديد معين غير أن المستحب أن يقرأ في الفجر والمغرب والعشاء من السور الطوال وفي الظهر والعصر من السور المتوسطة، وفي السنن والنوافل تكون القراءة أقصر مراعاة لحال المصلين. أما الأدلة على مشروعيتها فكثيرة ومنها ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ الفاتحة ثم يقرأ بعدها سورة مما يدل على أنها سنة متبعة وليست مجرد فعل عابر. وهي سنة مؤكدة للإمام والمنفرد في الصلاة سواء كانت جهرية أو سرية، أما المأموم فإنه يسن له الإنصات في الصلوات الجهرية ويستحب له القراءة في الصلوات السرية. والمقصود بهذه السنة أن يقرأ المصلي بعد الفاتحة شيئًا زائدًا من القرآن دون اشتراط سورة معينة ولا إلزام بإكمال السورة كما أن الزيادة على السورة أو تكرارها لا يؤثر في صحة السنة ولا يغني تكرار الفاتحة عن هذه القراءة.أما القيام لقراءة السورة فهو سنة مؤكدة في حق الإمام والمنفرد وأما المأموم فيلزمه متابعة إمامه ولا ينفرد بالقيام بنفسه.
- الجهر والإسرار في مواضعهما: الجهر والإسرار في مواضعهما من الأحكام المهمة التي ينبغي للمسلم معرفتها حتى يؤدي صلاته وفق السنة النبوية كما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالجهر يكون مشروعًا في الصلوات الجهرية وهي صلاة الفجر وصلاة المغرب وصلاة العشاء، حيث يستحب للإمام أو المنفرد أن يجهر بقراءة الفاتحة وما تيسر من القرآن الكريم في الركعتين الأوليين، وأما المأموم فإنه مأمور بالإنصات لقراءة إمامه في الصلاة الجهرية فلا يقرأ الفاتحة ولا السورة عند جمهور الفقهاء لأن قراءة الإمام له قراءة. أما الإسرار فهو المشروع في الصلوات السرية وهي صلاة الظهر وصلاة العصر حيث يقرأ فيها الإمام سرًا وكذلك المنفرد يسر بقراءته في هذه الصلوات، أما المأموم فإنه كذلك يسر بقراءته في الصلوات السرية ويقرأ الفاتحة وما تيسر من القرآن، لأنه غير مأمور بالإنصات كما هو الحال في الصلوات الجهرية. أما في الصلوات الجهرية فإن الإمام هو الذي يتولى القراءة الجهرية ويقتصر المأموم على الإنصات وهذا ما يستحب العمل به.
والحكمة من التفريق بين الجهر والإسرار في الصلاة تعود إلى تحقيق التوازن بين التدبر والخشوع، حيث يكون الجهر في الصلوات التي تؤدى في الليل أكثر تحقيقًا للخشوع والتأمل، أما الصلوات التي تؤدى في النهار فالإسرار فيها يناسب حال المصلي الذي قد يكون مشغولًا أو في بيئة لا تناسب فيها الجهر، كما أن الجهر يساعد على تعليم الناس القراءة الصحيحة للقرآن الكريم، خاصة إذا كان الإمام مجيدًا للتلاوة فينتفع به المأمومون ويسمعون القرآن بصوت حسن فيزداد تأثرهم وخشوعهم في صلاتهم.
- تكبيرات الانتقال بين أفعال الصلاة، إلا تكبيرة الإحرام: التكبيرات غير تكبيرة الإحرام تعد من السنن المؤكدة في الصلاة حيث شرعت لمرافقة انتقالات المصلي بين أركان الصلاة، وتعبر عن تعظيم الله واستحضار عظمته في كل حركة وسكنة، فالتكبير الانتقالي هو الذي يكون عند الانتقال من ركن إلى ركن مثل التكبير عند الركوع، والسجود والرفع منه، والسجود الثاني، والقيام من التشهد الأول، وهذا التكبير سنة عند جمهور الفقهاء لكنه متأكد في حق الإمام والمنفرد لأنه يعلن به الانتقال من حال إلى حال، أما المأموم فيتابع إمامه في ذلك دون أن يسبق أو يتأخر كثيرًا لأن متابعة الإمام واجبة والتكبيرات تساعد المصلين على إدراك هذا المتابعة. وتكبيرات الانتقال يكون أداؤها بطريقة تتناسب مع كل حركة، فالتكبير للركوع يكون أثناء النزول إليه، والتكبير للسجود يكون كذلك أثناء النزول، والتكبير عند الرفع من السجود يكون عند الانتقال للجلوس، وهكذا لا يكون التكبير بعد الانتقال ولا قبله بل يرافقه كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، وهذا من تمام التأسي به ومراعاة هيئة الصلاة كما شرعت.
أما أهميتها فتظهر في كونها تميز الصلاة عن غيرها من العبادات وتجعل للمصلي اتصالًا مستمرًا بالله في جميع أركانها، فلا ينشغل فكره بحركاته بل يظل مكبرًا ذاكرًا لله مع كل انتقال، كما أنها تزرع الطمأنينة في النفس لأن المصلي حينما يكبر في كل حركة يستشعر أنه متصل بالله عز وجل في كل ركن، وهذا مما يزيد الخشوع في الصلاة ويساعد على استحضار القلب فلا يكون التنقل بين الأركان مجرد حركات بل يكون ذكرًا وتعظيمًا لله في كل لحظة.
حكم سنن الصلاة المؤكدة
السنن المؤكدة في الصلاة لها حكم خاص في الفقه المالكي حيث يعتبر فعلها من تمام الصلاة وكمالها، فهي ليست فرائض تبطل الصلاة بتركها ولكنها ليست مجرد مستحبات يمكن الاستغناء عنها دون تأثير، لذلك جعل الشرع حكمها الاستنان المؤكد أي أن فعلها مطلوب تأكيدًا وليس مجرد ترغيب ولهذا السبب إذا تركها المصلي سهوًا فإنه يسجد سجدتي السهو قبل السلام لتعويض هذا النقص.
السنن الخفيفة للصلاة
السنن الخفيفة في الصلاة هي الأمور المستحبة التي تزيد الصلاة كمالًا وخشوعًا دون أن يكون لها حكم السنن المؤكدة، فهي مستحبات فعلها أولى وأكمل، لكن لا يلزم تعويضها بسجود السهو عند تركها وقد ذكرها ابن عاشر في منظومته مبينًا أهميتها في تحسين أداء المصلي وجعل صلاته أكثر موافقة للسنة وهي تسع سنن: - السجود على اليدين و الركبتين و أطراف الرجلين - إنصات المأموم لقراءة الإمام في الصلاة الجهرية - رد المأموم السلام على الإمام - رد المأموم السلام على يساره إن كان فيه أحد المصلين - المكث الزائد على القدر الواجب من الطمأنينة - سترة المصلي - الجهر بالسلام - لفظ التشهد - الصلاة على النبي في التشهد الأخير، وفيما يلى بعض التفصيل لأبرز هذه السنن.
ومن بين هذه السنن السجود على اليدين والركبتين وأطراف الرجلين بحيث يضع المصلي كفيه على الأرض مع فرد أصابعهما موجهة للقبلة ويعتمد على ركبتيه وأطراف قدميه لتحقيق السجود الكامل، وهذا مما يعين على الطمأنينة في السجود والامتثال لأمر النبي صلى الله عليه وسلم حين قال أمرت أن أسجد على سبعة أعظم.
ومن السنن الخفيفة كذلك إنصات المأموم لقراءة الإمام في الصلاة الجهرية فلا يقرأ المأموم خلف الإمام حين يجهر، وإنما يستمع ويتدبر وهذا امتثال لقوله تعالى "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون" وكذلك مما يستحب للمأموم رد السلام على الإمام بعد الفراغ من الصلاة، فهو تحية تشرع بعد الانتهاء من العبادة، وتدل على التآلف بين المصلين، ومما يستحب أيضًا أن يرد المأموم السلام على يساره إذا كان بجانبه أحد من المصلين لأن السلام شعار المسلمين ويستحب إشاعته بين المصلين بغير إسراف ولا تكلف.
ومن السنن الخفيفة كذلك المكث الزائد على القدر الواجب من الطمأنينة في الصلاة، وهذا يظهر في الركوع والسجود والجلوس بين السجدتين، فكلما مكث المصلي هنيهة زائدة على الحد الأدنى الواجب كان أكثر طمأنينة وخشوعًا في صلاته، ومن الهيئات المستحبة أيضًا اتخاذ المصلي سترة أمامه إذا كان منفردًا أو إمامًا ليستتر بها حتى لا يمر أحد أمامه فتظل صلاته في خشوع وانضباط.
أما الجهر بالسلام فهو مستحب بحيث يسمع المصلي نفسه ومن بجواره دون رفع الصوت زيادة عن الحاجة، ليحقق شعار ختام الصلاة بطريقة معتدلة، ومما يستحب في الصلاة أيضًا لفظ التشهد بحيث يأتي المصلي بلفظ التشهد في جلوسه الأخير ولا يقتصر على ذكر السلام مباشرة. وأخيرًا من السنن الخفيفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير فمع كونها ليست بفرض إلا أنها مستحبة لما فيها من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهديه في ختام الصلاة.
أسئلة التقويم والإجابة عنها
- ما الفرق بين الفريضة والسنة والمندوب في الصلاة؟ الفريضة هي ما لا تصح الصلاة بدونها ويؤدي الإخلال بها إلى بطلانها، و السنة هي ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به على سبيل الإلزام، والمندوب هو ما رغب فيه الشرع دون أن يكون مؤكدًا مثل السنن.
- ما أهمية السنن في الصلاة؟ تزيد من روحانية الصلاة وخشوع المصلي، وتكمل الفرائض وتضفي على الصلاة التناسق والطمأنينة، و تعكس اتباع المصلي لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
- اذكر ثلاثًا من السنن المؤكدة في الصلاة وفق المذهب المالكي. - قراءة السورة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين، - الجهر والإسرار في مواضعهما، - تكبيرات الانتقال بين أفعال الصلاة.
- ما الحكمة من الجهر والإسرار في الصلاة؟ الجهر يساعد على تدبر القرآن ويعلم الناس القراءة الصحيحة، والإسرار يناسب صلوات النهار حيث قد يكون المصلي منشغلًا، ويحقق التوازن بين الخشوع والاستماع للقرآن.
- ما حكم ترك السنن المؤكدة في الصلاة؟ لا تبطل الصلاة بتركها، لكنها تفقد جزءًا من كمالها، وإذا تُرِكَت سهوًا يُشرع سجود السهو لتعويضها.
- اذكر مثالين من السنن الخفيفة في الصلاة مع بيان فائدتهما. - إنصات المأموم لقراءة الإمام في الصلاة الجهرية: يساعد على تدبر القرآن والخشوع في الصلاة، - اتخاذ سترة للمصلي: يمنع انشغال المصلي ومرور الناس أمامه، مما يحفظ خشوعه في صلاته.